Thursday, May 28, 2009

الختان ليس عملية طهارة وإنما عملية بتر!


خالد منتصر

بالختان نقول مرحبا بالعبودية،
ووداعا للحرية والعقل.
قراءة اجتماعية وأدبية :

ختان البنات سؤال يؤرقني منذ أن كنت طفلا أرى بنات عائلتي يسقن إلى مصيرهن وكأنهن ذاهبات إلى السلخانة. وكبر السؤال وتضخمت علامة الاستفهام عندما التحقت بكلية الطب، وعرفت أن هذه الجزارة البشرية التي يمارسها المصريون مع بناتهم لا تمت لعلوم الطب بأية صلة. وتيقّنت وتأكدت من أن العرف والعادة والتقاليد والخرافة أحيانا ما تكون أقوى من المصلحة، وأعلى صوتا من المنطق، وأشد إقناعا من الحقيقة العلمية الواضحة.

وتساءلت لماذا تدلف بناتنا من عتبة الطفولة إلى باحة أجمل سن، وهو سن المراهقة عبر نافورة من الدماء؟!.

وكيف نسمح لأنفسنا بممارسة كل هذه السادية بتقطيع أجسادهن، وبتر أعضائهن؟

ولماذا تتضخم لدينا غدة الوصاية وننصب من أنفسنا حماة للأخلاق المزيفة التي لا يمكن أن تصنعها مجرد جلدة أسمها ”البظر“، ولكن تصنعها منظومة كاملة من القيم يعلمها لنا الدين، وتلقنها لنا الأسرة، ومؤسسات المجتمع؟،

ولماذا أصبحت لدينا عقدة من ممارسة البهجة، و وسواس قهري من شعور الفرحة، ورعب وفزع من النشوة، ومصادرة لحق إنساني مشروع، وهو حق الاستمتاع بالجسد بكامل طاقاته التي خلقها الله بداخلنا؟!

كل هذه الأسئلة وغيرها توالدت في رأسي ثانية مع بدء حملة مقاومة الختان التي تبناها ”المجلس القومي للأمومة والطفولة“. ووجدت أنه لا مفر من طرحها حتى يواجه المجتمع نفسه في المرآة، ويرى تجاعيده بكل تفاصيلها وملامحها. فطرح الأسئلة أحيانا يكون أهم من الإجابة نفسها، وقليل من الاستفزاز العقلي في مثل هذه القضايا يكون مفيدا. ولذلك كان لابد من مناقشة هذا الموضوع من كافة جوانبه المتعددة المتشابكة. فختان البنات ليس مشكلة طبية أو دينية أو اجتماعية فقط، ولكنها حاصل جمع هؤلاء جميعا، ونتيجة تفاعل تلك العوامل بحيث تعد مناقشة عنصر من هذه العناصر منفردا نوعا من الغش والخداع.

من المضحكات المبكيات في قضية الختان أن يحدث الخلط الذهني، وعدم وضوح الرؤية في أذهان المثقفين بنفس درجة اللخبطة، والتشويش التي تحدث بها عند العامة والبسطاء. ويكفى أن نعرف أن أعلى صوت مدافع عن الختان هو لأستاذ لأمراض النساء والولادة بطب عين شمس. والغريب أنه يصر على مواصلة رفع قضيته ضد وزير الصحة السابق لأنه منع الختان!. وهذا يدلنا على أن الخرافة كثيرا ما تتفوق على العلم حتى ولو كان مسلحا بالدكتوراه، وهنا تكمن الكارثة، حين يتم تشفير العقول بواسطة الفكر الجمعي الذي يميل في بعض الأحيان للغوغائية أكثر من الهدوء والمنطق. ولذلك يجب أن نعرف سيناريو تلك البربرية التي تحدث باسم الدين والدين منها براء. وهذا ما سنثبته في فصل آخر بإذن الله، إنها بربرية استحقت أن تحمل اسم ”البتر التناسلي للإناث“ FEMALE GENITAL MUTILATION، وهو الاسم العلمي الجديد الذي تستحقه هذه الجزارة التي تنتمي لعقلية القرون الوسطي ولسلوك الهمج. وسنحاول قبل أي تحليل أن نتعرف عن قرب على هذه العملية التي من الممكن أن يكون المثقفون غير مدركين لمدى بشاعتها وذلك بأن نستمع إلى هذا السيناريو الدراكولى من عدة مصادر منها عالم الاجتماع الذي رصد، والطبيبة التي عانت، والروائي الذي حكى، والبنت التي بترت أعضاؤها حتى نكون على نفس موجة الإحساس، ونستطيع أن نستوعب أركان الجريمة حتى نصدر الحكم السليم.

طقوس الختان

البداية مع د. محمد عوض خميس أستاذ الاجتماع الذي يصف حفلة طهور بنت. وطبعا، نحن نسميها حفلة تجاوزا، فهي حملة دموية، وليست حفلة، وأهمية وصف دكتور خميس يأتي أولا من أنه رصد بعيون أكاديمية، وأيضا من أنه حضر الطهارة بواسطة داية وليست طبيب. والداية مازالت حتى الآن هي مندوب الشرف السامي في الأوساط الشعبية التي تمثل الغالبية، ويصف أستاذ الاجتماع هذه الحفلة السادية قائلا : يجتمع حشد من النساء الأقارب المتزوجات، وغير المتزوجات، وعدد كبير من الأطفال والأخوة الذكور، والأب، وعدد محدود وخاص جدا من الرجال، وتعم الجميع فرحة غامرة!. وتتهامس النساء فيما بينهن بجمل غاية في القباحة، والتي لها دلالة على تخلفهن الشديد مثل ”خليها تبرد نارها“، أو ”علشان ما تبقاش مالحة“، أو ”شوية يتهد حيلها“، ”الحال من بعضه“ أو ”ده يكسر مناخيرها“، أو ”بكره تتجوز ومهما الزوج عمل لا تتعب ولا تحس“.. الخ. ويعقب كل جملة من هذه الجمل ضحكات مرتفعة هستيرية دلالة على الموافقة، والترحيب مع التعقيبات ذات الدلالة الجنسية الصارخة، هذا الضحك هو نوع من أنواع الشماتة، أو تعويض لنقص، فمعظم الجالسات حدث معهن ما يحدث مع الفتاة المذكورة.. وهنا يسترعى الانتباه فيما يذكره د. خميس رد فعل المرأة التي تنكر معاناتها، وتتخفى وراء لسان طويل، وصفاقة مفتعلة حتى تثير الغبار، وتتوه القضية الأساسية. ويستكمل الدكتور وصفه قائلا : تدخل الداية، وهى سيدة كبيرة السن قوية الجسد متسخة أظافرها نافرة، معها منديل معقود به مشرط طويل عرضه حوالي اثنان ونصف بوصة يشبه سكين الجزار، وتتطوع خمسة من النسوة ذوات الصحة الجيدة من المدعوات إلى الدخول معها. ويبدأن على الفور في رفع ملابس الفتاة حتى الجزء الأعلى من الجسم ثم يوزعن أنفسهن كالأتي : إحداهن تقف عند كتفيها ضاغطة عليهما بكل قوة، واثنتان يمسكن بالفخذ الأيمن واثنتان بالفخذ الأيسر، و يفتحن الفخذين إلى آخر حد ممكن حتى يبدو العضو التناسلي للفتاة، وهى في حالة صراخ هستيري بشع، ثم تقوم الداية بمنتهى الهدوء، وبحركة سريعة جدا بضرب مشرطها قاطعة البظر تماما، ومعه جزء من الشفرتين. وبعدها يحدث النزيف الحاد من الفتاة، وهى في غيبوبة من جراء هذه العملية الإجرامية التي تتم بدون أي شفقة، وأثناء هذه العملية تكون النسوة يمضغن ”اللبان الدكر“، ويضعنه في طبق، ثم يشربن القهوة. وتترك الأكواب والفناجين دون غسيل. وتقوم إحدى السيدات بجمع بقايا القهوة في طبق أخر، يطلق البخور أثناء العملية بين النسوة المنتظرات، وتتعالى بعد خروج الداية الزغاريد الهستيرية. وتقوم إحدى السيدات بخلط اللبان الدكر، والقهوة، والبخور المحترق معا. وتقدمهم للداية التي تدخل مرة أخرى، ومعها فرقة المتطوعات لتضع الخليط السابق على الجرح، وتضغطه بشكل قاس جدا، ثم تضع فوقه قطعة من قماش خشن. وتخرج الداية مرة أخرى متلقية النقطة أي الهبة المالية من أهل الفتاة.

انتهى السيناريو البربري بفرحة الجميع وزغاريدهم، إلا واحدة فقط هي الفتاة نفسها التي من المؤكد أنها تنعزل بعيدا تلفها برودة الوحدة ودموع التساؤل.. ليه حصل معايا كده؟ وإيه الغلطة اللي أنا عملتها؟، إنها لا تعرف أن غلطتها الكبيرة هي أنها قد خلقت بنتا!.

ختان نوال السعداوي

ومن عالم الاجتماع إلى طبيبة وكاتبة مرموقة هي د. نوال السعداوي تحكى تجربتها الشخصية مع الختان، تحكيها بكل شجاعة وكل مرارة أيضا. وهذه الحكاية لها دلالة مختلفة لأنها تصدر عن طبيبة كانت وقت ختانها طفلة تنتمي إلى الطبقة الوسطي المحافظة، وإلى أسرة تتمتع بقسط وافر من التعليم والثقافة، تحكى نوال السعداوي قصة ختانها قائلة :

”كنت في السادسة من عمري، نائمة في سريري الدافئ أحلم أحلام الطفولة الوردية، حينما أحسست بتلك اليد الخشنة الكبيرة ذات الأظافر القذرة السوداء، تمتد وتمسكني. ويد أخرى مشابهة لليد السابقة خشنة وكبيرة تسد فمي وتطبق عليه بكل قوة لتمنعني من الصراخ، وحملوني إلى الحمام. لا أدرى كم كان عددهم، ولا أذكر ماذا كان شكل وجوهم، وما إذا كانوا رجالا أم نساء؟، فقد أصبحت الدنيا أمام عيني مغلقة بضباب أسود، ولعلهم أيضا وضعوا فوق عيني غطاء، كل ما أدركته في ذلك الوقت تلك القبضة الحديدية التي أمسكت رأسي وذراعي وساقي حتى أصبحت عاجزة عن المقاومة أو الحركة، وملمس بلاط الحمام البارد تحت جسدي العاري، وأصوات مجهولة، وهمهمات يتخللها صوت اصطكاك شيء معدني ذكرني باصطكاك سكين الجزار حين كان يسنه أمامنا قبل ذبح خروف العيد. وتجمّد الدم في عروقي، ظننت أن عددا من اللصوص سرقوني من سريري، ويتأهبون لذبحي، وكنت أسمع كثيرا من هذه القصص من جدتي الريفية العجوز. وأرهفت أذني لصوت الاصطكاك المعدني، وما أن توقف حنى توقف قلبي بين ضلوعي، وأحسست وأنا مكتومة الأنفاس، ومغلقة العينين أن ذلك الشيء يقترب منى، لا يقترب من عنقي، وإنما يقترب من بطني، من مكان بين فخذي، أدركت في تلك اللحظة أن فخذي قد فتحا عن آخوهما، وأن كل فخذ قد شدت بعيدا عن الأخرى بأصابع حديدية لا تلين، وكأنما السكين أو الموس الحاد يسقط على عنقي بالضبط، أحسست بالشيء المعدني يسقط بحدة وقوة ويقطع من بين فخذي جزءا من جسدي. صرخت من الألم رغم الكمامة فوق فمي، فالألم لم يكن ألما، وإنما هي نار سرت في جسدي كله، وبركة حمراء من دمى تحوطني فوق بلاط الحمام، لم أعرف ما الذي قطعوه منى، ولم أحاول أن أسأل، كنت أبكى، وأنادى على أمي لتنقذني، وكم كانت صدمتي حين وجدتها هي بلحمها ودمها واقفة مع هؤلاء الغرباء تتحدث معهم وتبتسم لهم وكأنهم لم يذبحوا ابنتها منذ لحظات. وحملوني إلى السرير ورأيتهم يمسكون أختي التي كانت تصغرني بعامين بالطريقة نفسها، فصرخت وأنا أقول لهم لا، لا. ورأيت وجه أختي من بين أيديهم الخشنة الكبيرة، كان شاحبا كوجوه الموتى، والتقت عيني بعينيها في لحظة سريعة قبل أن يأخذوها إلى الحمام، وكأنما أدركنا معا في تلك اللحظة.. المأساة.. مأساة أننا خلقنا من ذلك الجنس، جنس الإناث الذي يحدد مصيرنا البائس، ويسوقنا بيد حديدية باردة إلى حيث يستأصل من جسدنا بعض الأجزاء.

ختان الفرنسية الشقراء

تساءلت نوال السعداوي، ولكن غيرها لم يتساءلن بل رضين بأن يسقن كالقطيع إلى مصير هو كالقضاء والقدر. بل والمدهش أن الكثيرات منهن نتيجة تزييف الوعي يدافعن عن ذبحهن، تخيلوا إلى أي درجة وصل غسيل المخ بالمرأة التي تتخيل أن تقديمها كقربان على مذبح الأخلاق هو أعظم تكريم. وإذا كانت نوال السعداوي قد حكت عن تجربة ختان مألوفة لفتاة شرقية مسلمة، فإن الروائي الكبير سليمان فياض في روايته ”أصوات“ يحكى عن تجربة غير مألوفة ومدهشة لإمرأة أجنبية ظن أهل زوجها المصري أنهم بهذا الختان يحافظون على شرف إبنهم العائد من الغربة مصطحبا هذه الفرنسية الشقراء التي حتما ستخونه إذا لم يتم ختانها. اجتمعت نسوة القرية، وقررن إنقاذ شرف إبنهم حامد بختان ”سيمون“ حتى لا تصبح كما وصفوها قطة جائعة تبحث عن الرجال، وعلى لسان زينب زوجة أخ حامد التي تغار من سيمون نسمع القصة :

”أغلقت نفيسة النافذة، وأحطنا بها، فدارت حول نفسها باحثة عن مخرج. أمسكنا بها، فصرخت وقاومت، خفنا منها، فأغلقت فمها بكفي، وطرحناها على السجادة في أرض الغرفة. ورفعنا ذيل القميص الذي ترتديه، وكنا نمسك بها جيدا، وهى تناضل بكل ما فيها من قوة لتتخلص من ثمانية أيد، وقالت نفيسة : ألم أقل لكم؟، وراحت نفيسة تمارس مهمة تطهيرها بالمقص، ثم بحلاوة العسل الأسود لتزيل القذر الذي تحمله بين فخذيها، وشهقت نفيسة وقالت لحماتي : أنظري ألم أقل لك؟ أنها لم تختتن“.

وعند هذا الاكتشاف الخطير كان لابد أن يسيل لعاب النسوة لممارسة السادية الكامنة فيهن والتي تنتقل كالجينات الوراثية من جيل إلى جيل. ويكمل سليمان فياض الحكاية على لسان زينب فيقول : ”أخرجت نفيسة زجاجة من صدرها، ونزعت غطاءها، ففاحت منها رائحة البنج، وغمست في الزجاجة قطعة قطن، أخرجتها من صدرها أيضا، ثم وضعتها على أنف سيمون، رأيت في ضوء المصباح عينيها مفتوحتين على أخراهما، مليئتين بالفزع، فكرت في أن أتركها، وأدفع الكل عنها، وأوقظها، تصورت نفسي في مكانها، لكن خطر لي أنها تبهج حامد بروحها، وربما أيضا بجسدها الذي يشبه الملبن بياضا طراوة لأنها لم تختتن، وكان جسدها يسترخى تحت أيدينا، وفمها يتوقف عن المقاومة، ويتوقف الأنين المكتوم المنبعث من أنفها، وعيناها تنطبقان، وتظلان مواربتين“.. لم يشفع كل هذا الفزع لبطلة الرواية، فالخوف والرعب يشعل رغبة النسوة ويؤججها في مزيد من الانتهاك. وتكمل زينب القصة قائلة : ”أخذت نفيسة تمارس مهمتها بسعادة بالغة، والنسوة واقفات مستريحات ينظرن إلى مهمة جليلة، وفى قلق وسرور شديدين، وجذبت نفيسة ذلك الشيء حتى أخره بيده، وأخرجت باليد الأخرى موسا حادة كموس الحلاق من جيب ثوبها، وفتحته، ومسحته في جانب ثوبها، ثم ضغطت بجانب السلاح، وجذبت حد الموس بسرعة، فانفصل ذلك الشيء في يدها الأخرى، وتفجر دمها غزيرا، لم نر مثل هذا الدم من قبل على كثرة ما شاهدنا من طهارة للصبيان والبنات. وأخذت نفيسة تدس كل ما معها من قطن لتوقف النزف. لكن القطن كان يغرق بسرعة في الدماء المتدفقة من المسكينة، ودست نفيسة شالها، وشال سيمون، وكل ما طالته يدها في الدم المتفزر، والدم لا يتوقف، والقماش يغرق في بحر من الدم، لطمت حماتي خديها بيديها وصاحت : يا مصيبتي، صاحت فينا نفيسة تنهرنا حتى لا نفضح أنفسنا وطلبت منى أن أتيها بكل ما لدينا من بن وتراب فرن وتراب أحمر“.

ولم يفلح البن أو التراب أو البصل أو الكولونيا في إيقاظ ”سيمون“ فهي قد ماتت، أنها كما قالت الحماة جاءت من بلدها لعذابها، إن هؤلاء النسوة بترن سيمون لأنها قامت باستفزاز سكونهن وبلادتهن بإقبالها على الحياة فقررن إخراسها إلى الأبد ليس بقطع لسانها بل بقطع وبتر أنوثتها!.

زمن الرجال ولى

ومن سليمان فياض إلى الروائي الراحل فتحي غانم، وروايته البديعة ”زينب والعرش“، التي تم فيها ختان ”زينب“ بطلة الرواية بعد صراع ورفض من الجدة التركية ”دودو هانم“، وإصرار من الأم ”خديجة“ ذات الأصول الريفية. ولكن قانون الأخلاق المزيفة كان هو الأعلى صوتا وموس أم إسماعيل هو الذي وضع نقطة نهاية السطر. وتم ختان زينب. ويحكى فتحي غانم عن زينب بعد ختانها بيوم قائلا : ”لما رأت دودو هانم زينب منفرجة الساقين منكسرة الرأس، طلبت منها أن تتقدم إليها، ولكن زينب وقفت حائرة، وضحكت خديجة، وقالت أنها مكسوفة وكان السرور يلمع في عيني خديجة التي حاولت أن تنقل سرورها إلى حماتها فجعلت تقول لها أنها الخير والبركة في البيت، وأنها لم تفعل ما فعلت إلا ليقينها أن أنوثة زينب لن تكتمل إلا بالختان، وهى لن تتزوج تركيا ولكن زوجها سيكون مصريا، وهو لن يرضى بزوجة بغير ختان. وجعلت خديجة تثرثر بحكايات عن رجال اكتشفوا أن زوجاتهن بغير ختان فكانوا يطلقونهن، أو كما حدث لحكمت الألفي وهى من عائلة تركية تسكن في المنيرة فقد صمم زوجها على أن تجرى لها أم إسماعيل عملية الختان، وهى عروس جاوزت العشرين، فنزف منها دم غزير وكادت أن تموت وهزت دودو هانم رأسها مستسلمة لكلام خديجة وقالت وهى تتنهد أن زمن الرجال الذين كانوا رجالا قد ولى ولم يبق إلا الفلاحين!.

هذه الحكايات ليست كلام روايات وإنما هي واقع كتبه من هم ضمير الوطن. إن هذه الحكايات جميعا نقطة في بحر القلق والتوتر الذي تغرق فيه بناتنا المذبوحات بسكين الجهل والخرافة، والدماء النازفة من الفتاة هي في بعض الأحيان أقل الأضرار، فالنزف النفسي يكون أكثر تدميرا. ويقول عنه د. حلمي عبد السلام في كتابة ”مفاهيم جديدة“ : ”إن أثار الختان النفسية قد تكون سابقة له، فما أن تسمع الفتاة بما حدث لأقرانها الأكبر سنا حتى ينتابها القلق، وكلما اقتربت من السن المعتاد إجراء الختان فيه يتصاعد قلقها ويتحول إلى رعب نفسي قد يصل في بعض الحالات إلى حدوث كوابيس وتأخر دراسي. وتزداد حدة هذا القلق كلما كانت الفتاة معتدة بنفسها، وبشخصيتها. ويحكى د. طه باشر : أن فتاة كانت تصرخ خلال نومها قائلة : ”الحشرة، الحشرة“، ولكن الأهل لم يجدوا أثرا لمثل تلك الحشرة. ثم تبين أن خادمة البيت كانت قد أعادت عليها في الأيام السابقة بأنها سوف تختن، فالحشرة التي تتكلم عنها في منامها تعبر عند العامة بمخالبها ومنظرها المخيف عن المرأة التي تقوم بالختان. وبعد ذلك تم التأكيد للفتاة بأنها لن تختن. وقد أدى ذلك إلى أن عادت الفتاة إلى نومها الهادئ. وفيما يخص الآثار النفسية اللاحقة لختان البنات تقول د. سامية سليمان رزق ”لا يمكن أن تمحى الآثار النفسية لأخذ البنت غدرا وسط مظاهر الاحتفال، لتفاجأ بعملية التكبيل، ورؤية أسلحة البتر، وتعانى من الآلام والمضاعفات، في مقابل تقديم رشاوى مادية رخيصة، فمهما كانت البنت صغيرة فهي تستطيع أن تقارن بين ما قدم لها من أكل مميز وملابس جديدة، وبين ما دفعته من كرامتها بعرضها مجردة من ملابسها الداخلية أمام أغراب. ويترتب على ذلك فقدان ثقة الطفلة في أبويها أو من يحل محلهما، ويرتبط الغدر والأذى الجسمي والنفسي بخلق الشعور بالظلم لدي الفتاة الصغيرة والتي قد تلجأ للتعبير عنه بالتبول اللاإرادي، والانطواء الاجتماعي، فعملية الختان ليست بترا عضويا ولكنها أيضا بتر نفسي“.

حقا إنها عملية بتر نفسي قبل أن تكون بترا جسديا، إن محاولة بتر المرأة اجتماعيا محاولة قديمة ومتكررة، يلح فيها المجتمع على شطب هذا الكيان وحذفه تارة بعزلة داخل أسوار البيت، وتارة بتحويل الشارع إلى معتقل تتحرك فيه المرأة بحساب وريبة وأغطية وحواجز. ويؤكد د. عادل صادق أستاذ الطب النفسي على المعنى السابق بقوله : ”إن الختان يشكل عملية بتر تظل في مخيلة الفتاة مدى الحياة. إن هذا الشعور بالبتر لعضو مهم في جسم الفتاة بما فيه من معان جنسية يصبح شيئا راسخا في ذهنها. ويقولون إن هذا الجزء يبتر حتى لا تنحرف الفتاة، وبذلك يصبح مفهوم الأخلاق مرتبطا بالغريزة وأنه لا إرادة لها في ذلك. ذلك يحرمها كأنثى من الاعتزاز بذاتها الأخلاقية الإنسانية الناشئة عن قناعة وإيمان، ويحكى د. طه باشر في كتابه السابق عن امرأة في الثلاثين من عمرها قد عانت من هبوط نفسي بعد وضعها على إثر تأخر شفاء ندب الختان، فلم تستطع الأكل أو النوم، وكان يجب معالجتها جسديا ونفسيا في عيادة الأمراض العقلية، ويحكى عن امرأة أخرى كانت مريضة عقليا، وعندما أحيلت إلى الطبيب تبين أن هذه المرأة لا أطفال لها، وأنها مطلقة مرتين. وبعد الفحص تبين أنها تعانى من ورم بحجم كرة التنس تحت جرح الختان وبعد إزالة هذا الورم شفيت، وتركت المستشفى، وهى سليمة عقليا، وقد رصد باحثون كثيرون التحول المرعب الناتج عن ختان الإناث، فقبل الختان كانت الفتيات ودودات وصافيات العين وطبيعيات دون خوف من الفحوصات الطبية، أما بعد شهرين أو حتى سنتين من الختان، تحولت الصورة تماما، فالبنت منهن تقف مرتجفة، وتفزع من الفحص الطبي، وتصبح عدوانية في ردود أفعالها.. الخ.

لابد أن نعرف أن الختان ليس تقربا للآلهة، وأن ما كنا نفعله في عصر الفراعنة لم يعد صالحا لهذا العصر. فمن عادات المصريين القدامى إلقاء دمية على شكل فتاة جميلة يزينوها كعذراء يوم عرسها ويلقونها في النهر. وكانوا يعتقدون أنهم إن لم يفعلوا ذلك فإن النهر قد يغضب عليهم، ويكف عن الإنعام عليهم بفيضانه. وكان موسم وفاء النيل هو الوقت المناسب لختان البنات، فتقوم الدايات بختانهن في ذلك الوقت، وكانوا يحتفظوا بتلك الأجزاء التي كانت تقطع من الأعضاء الجنسية للفتاة، ويلفونها على هيئة حجاب، ويربطونها بخيط حول عنق الفتاة التي قطعت منها تلك الأجزاء. وفى يوم الاحتفال بعيد فيضان النيل كانوا يلقون بتلك الأجزاء في مجرى النهر معتقدين أن الفتاة التي لا تفعل ذلك تبقى عانسا من غير زواج، وأنها إذا تزوجت فإنها لا تنجب أطفالا على الإطلاق، أو حتى إذا أنجبت أطفالا فإن أولئك الأطفال لا يعيشون أو يموتون صغارا. وللأسف، مازلنا نصر على تقديم بناتنا كقرابين لوهم كبير اسمه العفة التي لا يعرف الكثيرون أنها مسئولية عقل وروح، وليست مسئولية قطعة من اللحم، أو بروز من الجلد خلقه الله كمصدر للمتعة وليس للنكد.

الختان ليس عادة إسلامية أو فرعونية ولكنها عادة عبودية!

قراءة تاريخية وانثروبولوجية :

كنت متأكدا حتى وقت قريب بأن ختان الإناث عادة خاطئة يفعلها المسلمون ولها أصل فرعوني. ولكن عندما سألني أحد مرضاي المسيحيين عما كنت أستطيع إجراء عملية الختان لطفلته الصغيرة اندهشت مرتين، الأولى لأنه طلب منى أنا شخصيا هذا الطلب، أما الدهشة الكبرى فقد كان مصدرها أن الطالب مسيحي الديانة. وهنا خاب ظني، وأيقنت أن ختان الإناث عادة عابرة لحواجز الأديان والجنسيات، وقد جعلني هذا المريض أعيد البحث في الأصول التاريخية لهذه العادة البربرية بعيدا عن الأديان. وعندما قرأت بعدها عن وضع المرأة المميز في العصر الفرعوني عدت للتشكك في أن أصل الختان فرعوني كما يدعى الكثيرون، وكما كنت أنا شخصيا معتقد. ومن هنا قررت الخوض في بحار وعواصف تاريخ الختان الشائك حتى نفهم معا من أين نبعت كل هذه الأنهار الدموية؟

”ده واخد عاري“

يحكى المستشار ”ماهر برسوم عبد الملك“ قصة لها دلالة مهمة في كتابه ”مذكرات مستشار مصري“ جرت أحداثها أثناء عمله كوكيل نيابة في الصعيد حيث استدعى لتحقيق حادثة سقوط شخص من القطار مما أدى لبتر ساقه. وعند سؤال المصاب اتهم حماه، وعندما تمت مواجهة المتهم دافع عن نفسه بجملة كان فيها الإفحام والإقناع كله. فقد قال : ”وده معقول يا بيه؟ أرميه من القطر؟ ده واخد عاري“!!. وقد ارتعشت عند قراءة هذه الجملة البليغة التي لخصت المسألة كلها. إن المرأة عار والرجل هو الذي يخفى أثار هذا العار. فمن الممكن أن يخفيه بالقتل أو يرمى تبعته عن كاهله بالزواج أو يُكيف و يُأيف هذا العار منذ الطفولة بالختان. إنها أثار عهد العبودية والإقطاع والرق والجواري التي امتدت لتعشش في عقول البعض من ضعاف النفوس ومرضى العقول من الرجال الذين مازالوا يعيشون بمنطق شهريار وسلوك الطاووس الذي إن أنصف المرأة فمن باب الإنعام والهبة، وليس من باب الحق المشروع والواجب الملزم. وكما كان يمارس الاخصاء في العصور الإقطاعية حتى يضمن السيد أن العبد لن يلعب بذيله، وحتى يضمن أن قوته الجسمانية لن تضيع أدراج الرياح في النزوات، فبعد أن تم استبدال السيد الرجل بالسيد الإقطاعي تم الاخصاء الأنثوي الجديد عن طريق الختان حتى تصبح ممتلكات الرجل خالية من التلوث الإشعاعي الجنسي، والقذارة الشهوانية التدميرية الشاملة!. ولأن أصل كلمة البظر الطبية معناها المفتاح فقد فعل السادة بنفس منطق حزام العفة ختان المرأة حتى لا تفتح به باب الشهوة!.

أصل الختان

يرفض الكثيرون من الأطباء والباحثين نسبة ختان الإناث إلى الفراعنة ومنهم د. محمد فياض ود. نوال السعداوي ود. سامي الذيب وغيرهم، بالرغم من تسمية أهل السودان لأفظع وأبشع أنواع الختان بالختان الفرعوني. فتقول د. نوال السعداوي أن اندونيسيا مارست ختان الإناث قبل مصر القديمة. ولقد أثبت علم التاريخ والأنثروبولوجي أن هذه العمليات، الختان، والاخصاء وغيرها، لا علاقة لها بالمصريين أو العرب أو المسلمين أو اليهود أو المسيحيين أو البوذيين أو غيرهم. إنها ترتبط بنوع النظام الاجتماعي والاقتصادي السائد في المجتمع وليس نوع البشر أو دينهم أو لونهم أو جنسهم أو عرقهم أو لغتهم. وتضيف إن القارة الأفريقية أو اللون الأسود ليس مسئولا عن هذه الجريمة، وإنما هي إحدى جرائم العبودية في التاريخ البشرى، إلا أنها بقايا النظرة العنصرية التي تتصور أن مشاكل الدنيا بما فيها الإيدز أصلها أفريقي، أو على الأقل بدأت في أفريقيا ثم انتقلت بالعدوى فقط إلى الجنس الأبيض. ويقول د. سامي الذيب صاحب أهم الدراسات عن الختان أنه قد يرجع سببه للنظام الذكوري الذي يشرع تعدد الزوجات ونظام العبيد. ويشير إلى كتاب ”الكاماسوترا“ الهندي، الذي يتحدث عن كيف أن الرجل في نظام الحريم كان لا يمكنه أن يرضى جميع النساء اللاتي يمتلكهن، فقد يتداول العلاقة الجنسية مقسما لياليه بينهن، وقد يختار إحداهن ليمارس الجنس معها، بينما تقوم المحرومات بممارسات وحيل غير مشروعه للوصول إلى الرجل أو تعويض هذا الحرمان. وللحد من هذه الممارسات غير المشروعة قام الذكور بفرض الختان على الإناث باعتباره وسيلة للحد من شهوتهن، ومنع اختلاط أطفالهن الشرعيين بأطفال من رجال غرباء. ويؤكد د. أحمد شوقي الفنجري على هذا المعنى قائلا : تعود هذه العملية إلى عصور الإقطاع حين كان الإقطاعي يمتلك الآلاف من البهائم والغنم إلى جانب المئات من العبدات والعبيد. وكان يعامل البهائم والبشر على السواء على أنهم ملك له، فكان يخصى الذكور من البهائم حتى لا تحمل الإناث وهن في مرحلة إدرار اللبن، ويخصى الذكور من العبيد حتى لا يقتربوا من نسائه. أما الإناث من البهائم فكانوا يضعون في أرحامهن قطعة من النوى أو زلطة حتى لا تحمل في وقت غير مناسب، أما العبدات فكان يعتبرهن ملك له فقط دون غيره رغم أن أعدادهن بالمئات، فكان يختنهن لقتل الشعور الجنسي حتى لا يستمتعن بالجنس لأنه لا يستطيع إشباعهن جميعا، إنها ليست مسألة مكان بعينه أو دين بذاته هي التي صنعت الختان، ولكنها مسألة إحساس العبودية الذي لو تغلب عليه انتفى سبب الختان وأصبح مرفوضا اجتماعيا. وعلى العكس لو استسلمت له لصار الختان مناسبة يجب الاحتفاء بها والترويج لها. ويستخدم في هذا الاحتفاء والترويج الدين تارة، والعادات تارة أخرى لكي تغطى هذه العادة الوحشية بورق سيلوفان جميل يجعله مقبولا بل ومطلوبا أيضا.

أساطير وتقاليد

عندما يسيطر الفكر الأسطوري الغيبي على مجتمع يظل محتفظا في بنائه بالخرافة التي تنتقل عبر جيناته الوراثية جيلا بعد جيل، خاصة عندما يتوارى المنهج العلمي في التفكير، ويفشل في إحداث التوازن، وخلق الطفرة التي تجعل الأسطورة جزءا من الفولكلور، لا مُكونا للتفكير والفعل والاختيار والقرار. والأعضاء المبتورة تمثل منذ قديم الزمان وفى معظم الأساطير قرابين، ومكونات خلق. ففي أسطورة ”ريجفيدا“ الهندية تم ربط ”بروزا“ وتقديمه ضحية، وخلق العالم من أشلائه. فمثلا من عينه خلقت الشمس، وهكذا. ومعظمنا يعرف قصة ”إيزيس وأوزيريس“ الذي مزقه إله الشر ”ست“، فحاولت إيزيس جمع أشلائه، ولكنها فشلت في العثور على عضوه التناسلي الذي ابتلعته ثلاث سمكات تمثل قوى الشر.

ومن الأساطير الأفريقية القديمة أسطورة ”قبيلة مانتجا“ التي تصارع فيها الأخوان ”باجنزا“ و”ياكومو“ أمام الإله، وجُرح فيها الأول وتم ختانه. وبعد شفائه رفض العلاقة الجنسية مع زوجته التي طلبت أن تختتن هي الأخرى لكي ترضى زوجها. وأسطورة التضحية بعروس النيل التي تحدثنا عنها سابقا هي مجرد إشارة لأهمية التضحية أو القربان في الفكر الأسطوري، وهو تارة يستخدم لتفادى غضب الآلهة وتارة أخرى كطقس للعبادة. ومن ضمن هذه القرابين حرق الأجساد وبتر الأعضاء. فبعض القبائل الأفريقية تضحى بالخصية اليسري أو اليمنى رغبة منهم في اتقاء شر ولادة التوأم. وهنا يصبح الختان مجرد ظلال أسطورة ورمز للتضحية الدينية التي تتحول رويدا رويدا لعلامة تميز وتفرد لقبيلة ما أو أصحاب دين ما أو سكان بلد ما يوحدهم هذا الطقس وينقذهم من الشتات الاجتماعي.

هذا التوحد أو هذه الرغبة العارمة في التشابه وخلق الانتماء والتطابق المزيف المزعوم يجعل من الختان وسيلة سهلة وسريعة لتحقيق كل هذا بمجرد ضربة مشرط، ونزف دماء، وتضحية بجزء هو في عرف العامة جزء زائد عن الحاجة يجلب وجع الدماغ والهياج الجنسي. ورغبة أفراد المجتمع في أن يكونوا نسخا متكررة ”فوتو كوبى“ من بعضهم هي امتداد للفكر العبودي الذي خلق ورسخ عادة الختان. وتعبر د. كاميليا عبد الفتاح عن تأثير هذا التطابق على عادة ختان البنات قائلة : إن عملية ختان البنات تندرج تحت مفهوم التطابق في المجتمع، ويظهر ذلك في توقع حدوث الختان وضرورته، وفي الرضى عنه، والاقتناع به. وإلى جانب رغبة البنت في التطابق فهناك دلالة نفسية لكل هذا، وهى إحساس البنت بالأهمية ولو لمدة أيام. تلك الأهمية التي تفتقدها البنت عادة في مجتمعنا، وهذا الفرح الذي يغمر الأسرة يعلق بذهن الفتيات الصغيرات اللاتي يطالبن بأن يجرى لهن الختان كنوع من التقاليد، والمشاركة الوجودية، والتطابق مع قيم المجتمع. والمدهش أن هذه الرغبة في التشابه التي تذكرها د. كاميليا قوية على عكس ما نعتقد أن الألم يتغلب عليها. فالرافضة لقيم المجتمع المستقرة، أو بالأصح التي يريد لها البعض الاستقرار لتحقيق مكاسبه، هذه الرافضة خاسرة، وتصرفاتها مستهجنة، وصديقاتها يعايرنها بأنها أقل منهن مما يضطرها لطلب الختان!.

ويورد د. سامي الذيب بعض الأمثلة التي من الممكن أن نستغربها في البداية ولكن عندما نلمس عن قرب وطأة وسطوة التقاليد سيضيع هذا الاستغراب. فهو يقول : ”أن المجتمع السوداني يضع غير المختونات ضمن ثلاثة خانات، الأطفال والمجنونات والعاهرات“. وتشير إحدى الدراسات الميدانية التي أجريت في الصومال أن الفتيات اللاتي يتركن بلا ختان لمدة طويلا يطالبن تكرارا بختانهن لأن عدم ختانهن يجعل منهن منبوذات في محيطهن، ولا يمكنهن أن يجدن زوجا إلا خارج مجتمعهن. وقد صرحت إحدى الممرضات غير المختونات بأنها تعيش مأساة وتفضل ألف مرة الموت على أن تعيش منبوذة!. وأعتقد أننا في مصر لابد أن نخلق إلحاحا حول خطورة الختان حتى نكسر هذه الرغبة في التشابه، ولابد من كسر هذه الحلقة الجهنمية في سياسة القطيع التي تخلق نوعا من الراحة المزيفة. ويظل يقنعك تيار ”ليس في الإمكان أبدع مما كان“ أن التغريد خارج السرب برغم أنه يمنحك متعة التميز إلا أنه يفقدك دفء القطيع. وتصدق الفتيات والأمهات هذا الهراء، ويفضلن حالة أسر السكون والركود الذي يصل لحالة التعفن على حرية الحركة والتغيير والتقدم.

العضو الملعون

ولأن العبد مجرد شيء أو جزء من المتاع الإقطاعي فإن التصرف معه يتم بنفس الطريقة التي يتعامل بها الإقطاعي مع ممتلكاته ودوابه ومزرعته. فكما يسمن أبقاره حتى تعطى مزيدا من اللحم واللبن، فإن المجتمع المتأثر بالفكر العبودي يختن المرأة لتجهيزها للزواج. أو باختصار : ”علشان تعجب السيد“، الذي هو الرجل. وكما تقول أسطورة أفريقية لقبيلة ”دوجون“ : ”أن الإله ”أما“ قبض على مصران ملئ بطين فخاري، ورماه. فتكونت الأرض على شكل امرأة مضطجعه على ظهرها. وعندما أراد ”أما“ لقاء هذه المرأة منعه هذا العضو الملعون، فقام الإله بقطعة ليتم اللقاء“. ومازال هذا الاعتقاد هو أساس عملية الختان حتى الآن في تلك القبيلة. والأفارقة لهم رأى غريب في سبب الختان وهو أن الفتاة الصغيرة تستمتع بطريقة ذاتية، ولذلك عندما تكبر لابد أن يقطع مصدر اللذة الذاتية حتى تبحث عن الرجل وعن الزواج. والأشد غرابة أن هناك مجتمعات في كينيا وأوغندا وغرب أفريقيا تستطيع فيها الفتاة الإنجاب خارج العلاقة الزوجية لإثبات خصوبتها، وبعد الإنجاب يتم ختانها إعدادا للزواج.

وقد أوضحت ممثلة لجنة النساء الغينيات في مؤتمر داكار 1984 أن الفتيات المختونات يبقين في غرفة واحدة، أو في الغابة المقدسة لمدة شهر حتى يشفى الجرح. وفيها تقوم إمرأة عجوز بمراقبتهن، وتعليمهن القصص والأغاني الشعبية، ودور ربة البيت..الخ. وبعد الخروج من هذه العزلة يصبحن صالحات للزوج. أما في مصر، فتوجد بردية كتبها باليونانية كاهن مصري يرجع تاريخها إلى عام 163 قبل الميلاد، يؤكد فيها على العلاقة بين الختان والزواج. ويذكر د. سامي الذيب رواية للرحالة الإسكتلندي جيمس بروس حول محاولة المبشرين الكاثوليك في مصر في القرن السابع عشر منع ختان الإناث على أتباعهم، ولكنهم تراجعوا عن هذا المنع عندما رفض الرجال الزواج من النساء الكاثوليكيات غير المختونات!. وتذكر د. أمال عبد الهادي في دراستها عن قرية ”دير البرشا“ ذات الأغلبية المسيحية التي تخلت عن ختان الإناث أن أكثرية الناس كانوا يرفضون مساعدة الغير في عدم ختان بناتهم. وكان سبب رفضهم ما يلي : كل واحد يحكم على بيته، لنفرض أنني نصحت أما بعدم ختان ابنتها ثم لم تتزوج!، فماذا سيكون موقفي؟!.

كما يمثل عدم الزواج هاجسا بشعا وملحا من بقايا العصر العبودي الذي يعامل العانس كعار وعبء ومصدر نحس. فإن العقم، وعدم الخصوبة هو الهاجس الأشد وطأة، لأن المرأة في هذه المجتمعات هي ماكينة تفريخ لفقس الأطفال، وأي خلل في هذه الوظيفة هو بمثابة تجريس مزمن المرأة. ولذلك تعتقد بعض القبائل في نيجيريا أن البظر عضو خطير يؤذى رأس الطفل إذا مسه، ومن الممكن أن يصل الإيذاء لحد القتل، ولهذا السبب يتم ختان المرأة في الشهر السابع من الحمل إذا لم تكن مختونة قبل الحمل. وهناك اعتقاد في بوركينا فاسو أن بظر المرأة يجعل الزوج عاجزا جنسيا، وقد يموت أثناء العملية الجنسية. وفى مناطق ساحل العاج، يُعتقد أن المرأة غير المختونة لا يمكن أن تنجب. وهناك أسطورة تقول بأن الفرج له أسنان تضر بالرجل، وأن البظر هو آخر سن فيه يجب قلعه. وتعتقد بعض القبائل بأن الختان يزيد الخصوبة، وأن البنت غير المختونة تفرز إفرازات قاتلة للحيوانات المنوية للزوج. وفى مصر تحكى ”مارى أسعد“ و”حلمي عبد السلام“ عن الأصول الأسطورية لعلاقة الختان بالإنجاب. ومنها قصة تسمية ما يقطع من المرأة بـ ”الفضلة“ لخطورتها. بالإضافة لقطع هذه الفضلة هناك عمليات كثيرة يعتقد فيها المصريون تحد من خطر الجزء المقطوع، مثل التمائم السحرية وغسله بصورة خاصة، أو مسه بأشياء مختلفة. واستلهاما من أسطورة عروس النيل التي سبق ذكرها في الفصل السابق، يعتقد أن من لا تلقى بفضلتها في النيل لن تنجب على الإطلاق. وبالطبع، يساعد الجهل بعلم التشريح على سريان وانتشار حجة ووهم أن الختان يسهل عملية الولادة، لأن ما يجب إزالته يسد الطريق أمام الجنين. وكما كان القدماء يشكلون جسد المرأة بإضافة الشحم والدهون، ويعلفونها لمزيد من التخن، والربربة، لتصبح كمصارعى السومو فإنهم يشكلون جسدها بالكشط، والإزالة. وبالطبع يقف الختان كأشهر هذه الأساليب التي تعبر عن المزاج الاجتماعي السادي الذي يسيء للمرأة.

وتمشيا مع اعتبار الختان وقفة عند مرحلة المجتمع العبودي، فإن النجاسة المرتبطة بأعضاء الجسم، وتقسيم الجسد إلى مراتب طبقية حسب درجة الطهارة والنجاسة كل هذا من بقايا التصور الإقطاعي للجسم، الذي يختلف فيه جسم العبد عن سيده، وأيضا أعضاء الجسم الواحد نفسه. ويكفى أن الاسم الذي يطلق على الختان هو الطهارة. وفى السودان، يعتبرون البنت غير المختونة نجسة، و إطلاق صفة ابن غير المختونة يعتبر من قبيل الشتيمة هناك، ويشبه شتيمة ابن العاهرة. والارتباط بين عدم الختان، والنجاسة عند القبائل الأفريقية ارتباط وثيق، فالبعض يرفض الأكل مع غير المختونة. وفي مالي، يرفضون مجرد تحضيرها للأكل. والبعض يعتقد أن في البظر سم قاتل. وفى أوغندا، تعتبر المرأة غير المختونة بنتا مهما كان عدد أطفالها، ويعتبر ابنها ابن بنت دون أية كرامة في جماعته، ولا يحظى بأي منصب هام. ولا يحق لهذه المرأة حلب البقر لأن ذلك يجلب النحس. كما لا يحق لها سكب الماء في الإناء الذي يحتوى ماء الشرب للعائلة، أو الصعود إلى المخزن لإحضار الحبوب للطبخ أو الزراعة. وإذا مات رجلها لا يحق لها استقاء الماء من النهر أو البئر. إن مفاهيم النجاسة المرتبطة بعبادة الطوطم، ومفاهيم إنسان الكهف الأول، الذي كان لا يستطيع فهم الظواهر المحيطة به، فينسج حولها الأساطير، ومنها أسطورة النجاسة، وخاصة بالمكان الذي ينزل منه دم الحيض المفاجئ الذي وضعه هذا الإنسان في خانة النجاسة كحل منقذ لعقلة القاصر.

رقصة اللقاء الجنسي

السحر وطقوسه وتدريباته عنصر أساسي من عناصر تكوين المجتمع العبودي. وقد جمعت ”البولتين“ عدد ديسمبر 1991، بعض هذه الطقوس الأفريقية الغريبة التي تنقلنا فورا لجو المجتمع القبلي، الذي يفتقر لأبسط بديهيات المنهج العلمي في التفكير وتفسير الظواهر. يحدد الساحر مكان التدريب على طقوس احتفالات الختان من غناء ورقص. وتتسابق الفتيات فيه للبحث عن شجرة المقدسة، ومن تجدها هي التي تتلقى أكثر طلبات زواج. وفى قبيلة ”ناندي“ عشية إجراء الختان، تشعل النار المقدسة قرب شجرة مخصوصة. وتقوم الخاتنة بفرك مكان الختان بنبات لاسع حتى ينتفخ المكان. ثم يتم الكي بقبس من النار وسط غناء ورقص القبيلة. وفى قبائل ”أوبانجى“ يحظر دخول المكان على الرجال، إلا زوج الخاتنة العجوز الذي يسيطر على الفتاة بعنف فاتحا فخذيها في نفس الوقت الذي يلهب ضهرها فيه سوط تمسك به امرأة من القبيلة. وبعدها يتم جز البظر بالسكين. وتقف البنات في طابور تحرسهم زغاريد القبيلة. وعلى من تنهى عملية الختان، أن ترقص رقصة اللقاء الجنسي والدم ينزف منها. وفى توجو، ينتهي طقس الختان بسير الفتيات عاريات في موكب حتى يصلن إلى التمثال المقدس. وفى دولة بنين، تجلس الفتيات على حجر مسطح على شكل دائرة ووجوههن إلى الخارج، وتجلس الخاتنة وسط الدائرة وتلف الحجر حتى تواجه البنت وتجرى لها الختان، ثم تلفه لكي تختن الفتاة التالية. وهكذا.. كل ما سبق له ظلاله الدينية في معتقداتهم، وهو شبه امتحان تجريه القبيلة للبنت. وهذا الإحساس بالامتحان انتقل إلى مجتمعنا المصري حيث نعقد امتحانات دورية للبنت في الأخلاق، بالطبع التي هي أخلاق من وجهة نظرنا تحمل خاتمنا الخاص وبصمتنا المميزة. إن الفرق بيننا وبينهم أنهم يجرون الختان بصراحة، وتحت غطاء السحر. ونحن نجريها بنفاق وتحت غطاء الدين.

العبودية ليست تعريفا زمنيا أو مكانيا، ولكنها مجموعة قيم أخلاقية معينة، ونظرة خاصة متزمتة، ونسق سلوكي يهتم بالحفاظ على المظهر الخارجي، وأرتيكاريا شديدة من أي شيء يمس ممتلكات السيد ومنها المرأة. بدليل أن هذا الختان البربري وصل إلى أوروبا عندما سيطر عليها إحساس الطهر البيورتاني في العصر الفيكتوري المتزمت المتخلف الذي صاحبه تخلف طبي أيضا. وقد ساعد هذا المركب المتخلف المزدوج على تبنى عادة الختان. وقد ساعد على انتشارها بعض التفسيرات الطبية التي تربط بين الأمراض العقلية والعصبية التي تصيب النساء وبين أعضائهن التناسلية، والتي تدين المرأة لأنها أسيرة طبيعتها البيولوجية المتقلبة من حمل وإرضاع وولادة وحيض.. الخ، مما يؤدى من وجهة نظر أصحاب هذه التفسيرات لخفض قدرتها الذهنية وانهيار إرادتها الواعية وفقدها للقدرة على التحكم في نفسها. وفى كتاب ”موقف الأطباء من ختان الإناث“ تقص مؤلفتا الكتاب ”أمال عبد الهادي“ و”سهام عبد السلام“ قصة غزو ختان النساء لأوروبا إبان العصر الفيكتوري. ففي سنة 1858 أدخل د. إسحق بيكر براون ختان النساء لبريطانيا كوسيلة علاجية للأمراض البدنية والعقلية التي كان يعتقد أنها تصيب النساء بسبب تعرضهن للإثارة الجنسية. وللعلاج، مارس د. براون استئصال البظر والشفرين الصغيرين كعلاج لهذه الأمراض، بل وأحيانا المشاكل الاجتماعية كالطلاق!. وكان يتباهى بأنه يخدرهن تخديرا كليا، وقد أدت التجاوزات المهنية للدكتور براون إلى تجريده من ألقابه العلمية وفصله من عمله. وفى سنة 1867 نشرت المجلة الطبية البريطانية خطابا هاما يوضح أسباب رفض المجتمع الطبي لممارسات د. براون، يقول الخطاب : ”نحن معشر الأطباء حماة مصالح النساء، بل ورعاة شرفهن، والحق إننا نحن الطرف الأقوى وهن الطرف الضعيف، فهن مجبرات على تصديق كل ما نقوله لهن لأنهن لسن في وضع يسمح لهن بمجادلتنا، لذا يمكن القول بأنهن يقعن تحت رحمتنا. وفى ظل هذه الظروف لو تخلينا عن التمسك بمبادئ الشرف وخدعنا مريضاتنا أو ألحقنا بهن الأذى بأي شكل، فإننا لا نستحق الانتماء إلى مهنتنا النبيلة“. وأما الأكثر طرافة فهو ما ذكر في كتاب ”مشاكل النساء“ لفرنيون كوليمان من أن الختان أستخدم لعلاج كثرة عرق الأيدي للفتيات اللاتي كن يعملن بمصانع النسيج على آلات الخياطة التي تعمل ببدال القدم، وكان المبرر هو أن حركه اهتزاز الفخذين الدائمة واحتكاكهما كانا يولدان إثارات جنسية لا تحتمل!!. وقد تبنى البعض في مصر مثل هذا الرأي أو أشد منه في تأييد الختان، فقالوا : أن تلامس الملابس واحتكاكها بالبظر من الممكن أن يثير البنت فمن الأفضل ختانها!!.

في ختام هذه القراءة التاريخية نقول إننا بالختان نقول مرحبا بالعبودية، ووداعا للحرية والعقل. وإذا رغبنا في الخروج من كهف الظلمة لساحة النور علينا أن نعترف بأن أجسامنا ملكنا، ومصدر فرحتنا، وليست وعاء شرورنا وآثامنا ورذيلتنا. وأن نمنع أي بتر عدواني نفعله بها كالختان، الذي هو من بقايا العبودية، والتي للأسف نحن إليها أحيانا وبكامل إرادتنا.

No comments:

Post a Comment